فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال العلامة نظام الدين النيسابوري:
التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.
اقتلوني يا ثقاتي ** إن في قتلي حياتي

وحياتي في مماتي ** ومماتي في حياتي

مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم: مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة {ما هي إنها بقرة} نفس تصلح للذبح بسيف الصدق {لا فارض} في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد {ولا بكر} في سن شرخ الشباب يستهويه سكره {عوان بين ذلك} لقوله: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} [الأحقاف: 15].
{بقرة صفراء} إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضيات {فاقع لونها} يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين.
{لا ذلول تثير الأرض} لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها {ولا تسقي} حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق {مسلمة} من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله {وما كادوا يفعلون} بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه.
{وإذ قتلتم نفسًا} يعني القلب {فادّارأتم} فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة {فقلنا اضربوه ببعضها} ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال: {إن النفس لأمارة بالسوء} [يوسف: 53] {وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} مراتب القلوب في القسوة مختلفة، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم. والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه. فإراءة الآيات للخواص {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] {ويريكم آياته لعلكم تعقلون} [البقرة: 73] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف {لولا أن رأى برهان ربه} [يوسف: 24] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال: واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها. والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (84):

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم فيه من العهد، وقرن به الإخراج من الديار لأن المال عديل الروح والمنزل أعظم المال وهو للجسد كالجسد للروح فقال: {وإذ أخذنا ميثاقكم} يا بني إسرائيل {لا تسفكون دماءكم} أي لا يسفك بعضكم دماء بعض {ولا تخرجون أنفسكم} بإخراج بعضكم لبعض لأن المتواصلين بنسب أو دين كالنفس الواحدة {من دياركم}، قال الحرالي: وأصلها ما أدارته العرب من البيوت كالحلقة استحفاظًا لما تحويه من أموالها. انتهى.
ولما كانوا قد نكصوا عند حقوقِ الأمر فلم يقبلوا ما أتاهم من الخير حتى خافوا الدمار بسقوط الطور عليهم أشار إلى ذلك بقوله: {ثم أقررتم} أي بذلك كله بعد ليّ وتوقف، والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره- قاله الحرالي: {وأنتم تشهدون} بلزومه وتعاينون تلك الآيات الكبار الملجئة لكم إلى ذلك، وقد مضى مما يصدق هذا عن التوراة آنفًا ما فيه كفاية للموفق، وسيأتي في المائدة بقيته، إن شاء الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه.
وأما قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} ففيه وجوه:
أحدها: أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيها: أنه خطاب مع أسلافهم، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم.
وثالثها: أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى: {أَخَذْنَا ميثاقكم} أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه. اهـ.
قال الفخر:
أما قوله تعالى: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} ففيه إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه.
والجواب عنه من أوجه:
أحدها: أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفًا به، وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضًا، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسبًا ودينًا وهو كقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
وثالثها: أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه، ورابعها: لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم، وخامسها: لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم.
أما قوله تعالى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ} ففيه وجهان، الأول: لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم، الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضًا من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} ففيه وجوه، أحدها: وهو الأقوى، أي: ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها، وثانيها: اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعًا فيما بينهم مشهورًا.
وثالثها: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق، ورابعها: الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال: فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته، فإن قيل: لم قال: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} والمعنى واحد، قلنا فيه ثلاثة أقوال: الأول: أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم، الثاني: أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون، الثالث: أنه للتأكيد. اهـ.

.قال القرطبي:

فإن قيل: وهل يَسفِك أحد دمه ويُخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملّتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضًا وإخراج بعضهم بعضًا قتلًا لأنفسهم ونَفيًا لها.
وقيل: المراد القصاص؛ أي لا يَقتل أحد فيُقتل قصاصًا، فكأنه سفك دمه.
وكذلك لا يزني ولا يرتدّ، فإن ذلك يبيح الدم.
ولا يُفْسِد فيُنْفَى، فيكون قد أخرج نفسه من دياره.
وهذا تأويل فيه بُعْدٌ وإن كان صحيح المعنى.
وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقًا ألاّ يقتل بعضهم بعضًا؛ ولا يَنفيه ولا يسترقّه، ولا يدعه يسرق؛ إلى غير ذلك من الطاعات.
قلت: وهذا كله محرّم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي التنزيل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] وسيأتي.
قال ابن خُوَيْزِ منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسان نفسه، ولا يخرج من داره سفهًا؛ كما تقتل الهند أنفسها.
أو يقتل الإنسان نفسه من جَهد وبلاء يصيبه، أو يَهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلًا في ديانته وسفهًا في حِلمه؛ فهو عموم في جميع ذلك.
وقد روي أن عثمان بن مَظْعُون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يَهيموا في الصحراء ولا يأوُوا البيوت، ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء؛ فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: «ما حديثٌ بلغني عن عثمان»؟ وكَرهت أن تُفشي سِرّ زوجها، وأن تكذِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك؛ فقال: «قولي لعثمان أخلاف لسُنتي أم على غير مِلّتي إني أصلّي وأنام وأصوم وأُفطِر وأَغْشَى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني» فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}.
تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.
والقول في {لا تسفكون} كالقول في {لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83] والسفك الصب.
وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل {تسفكون} اقتضت أن مفعول {تسفكون} هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} [النور: 61] أي فليسلم بعضكم على بعض.
فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أومفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أُميم أخي ** فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللا ** ولئن سطوت لأوهنن عظمي

يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرَّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول، أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب الكشاف إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبًا أو دينًا فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله: {دماءكم} و{أنفسكم}.
وقيل: إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في {تفسكون} و{تخرجون} بعلاقة التسبب.
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله: «لا تقتل، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب.
وعليه فإضافة ميثاق إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.
وقوله: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} مرتب ترتيبًا رتبيًا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في {أقررتم وأنتم تشهدون} راجعان لما رجع له ضمير {ميثاقكم} وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم.
وجملة {وأنتم تشهدون} حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديُّن به. اهـ.